على مدى سنوات الصراع في سوريا، كشف الضحايا والشهود والصحافيون ومحققو الأمم المتحدة عن أعمال وحشية مروّعة ارتكبتها جماعات من المسلحين، من قتل، واحتجاز تعسفي، وتعذيب، وعنف جنسي بحق الرجال والنساء والفتيان والفتيات... حتى بدا أنّه ما من جريمة أبشع من أن تقترفها تلك الجماعات.
منذ آب/أغسطس 2012، وجد تحقيق أجرته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سلسلة من الهجمات على يد هذه الجماعات المسلحة أنّ الهجمات كانت جزءًا من نمط في القتل غير المشروع وجرائم أخرى ارتكِبت في المناطق المناهضة للنظام في أرجاء البلاد. حصلت الهجمات بالاتفاق مع القوات المسلحة السورية، التي كانت تبدأ بفرض حصار على المنطقة وقصفها، قبل شنّ هجمات برية من قبل القوات الخاصة وعصابات الشبيحة المسلحة. يليها تفتيش البيوت بيتًا بيتًا، مع القبض على الناشطين والمنشقين والرجال في سن القتال وتصفيتهم، وغالبًا ما كان يطال ذلك أفراد عائلتهم أو أشخاص يتم اختيارهم عشوائيًّا أيضًا. وسرعان ما انتشرت في الإعلام الدولي أخبار عن مجازر غير مسبوقة بحق المدنيين على يد الجماعات شبه العسكرية السرية الموالية للنظام.
على مدى سنوات الصراع في سوريا، كشف الضحايا والشهود والصحافيون ومحققو الأمم المتحدة عن أعمال وحشية مروّعة ارتكبتها جماعات من المسلحين، من قتل، واحتجاز تعسفي، وتعذيب، وعنف جنسي بحق الرجال والنساء والفتيان والفتيات... حتى بدا أنّه ما من جريمة أبشع من أن تقترفها تلك الجماعات.
منذ آب/أغسطس 2012، وجد تحقيق أجرته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سلسلة من الهجمات على يد هذه الجماعات المسلحة أنّ الهجمات كانت جزءًا من نمط في القتل غير المشروع وجرائم أخرى ارتكِبت في المناطق المناهضة للنظام في أرجاء البلاد. حصلت الهجمات بالاتفاق مع القوات المسلحة السورية، التي كانت تبدأ بفرض حصار على المنطقة وقصفها، قبل شنّ هجمات برية من قبل القوات الخاصة وعصابات الشبيحة المسلحة. يليها تفتيش البيوت بيتًا بيتًا، مع القبض على الناشطين والمنشقين والرجال في سن القتال وتصفيتهم، وغالبًا ما كان يطال ذلك أفراد عائلتهم أو أشخاص يتم اختيارهم عشوائيًّا أيضًا. وسرعان ما انتشرت في الإعلام الدولي أخبار عن مجازر غير مسبوقة بحق المدنيين على يد الجماعات شبه العسكرية السرية الموالية للنظام.
استندت التقارير إلى أدلة ظرفية بيّنت عمل الشبيحة إلى جانب القوات الحكومية، حيث شكّل الشبيحة جزءًا من رد النظام على المظاهرات والمعارضة. ولكنْ، بدا أنّه ما من دليل مباشر على تلك العلاقة. فاعتبر تقرير لجنة التحقيق أنّه "لا تزال الطبيعة المحددة لهذه الميليشيات وقوتها وعلاقتها بالحكومة غير واضحة". كما ورد في تقرير لجنة التحقيق: "أشار شهود عيان باستمرار إلى أفراد الشبيحة بوصفهم من مرتكبي الكثير من الجرائم المبينة في هذا التقرير. وعلى الرغم من أنّ طبيعة هذه الجماعة وتركيبتها وتسلسلها الهرمي وبنيتها من الأمور التي لا تزال غامضة، فإنّ هناك معلومات موثوقة أدت إلى الاستنتاج بأنّ عناصر الشبيحة قد تصرفوا بعلم من القوات الحكومية وبالاتفاق معها أو بإيعاز منها".
في السنوات التي تلت، ظهرت معلومات أكثر عن تلك الجماعات شبه العسكرية وجرائمها وعضويتها. كانت الجرائم بحد ذاتها موثّقة توثيقًا جيدًا إجمالًا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومقاطع الفيديو، وإفادات الشهود والناجين والمنشقين. كما تم التبليغ عن تركيبة تلك الجماعات وعضويتها ورعايتها المحلّية بشكل جيد أيضًا. غير أنّه استحال إثبات ارتباطها بجهاز الدولة السورية ارتباطًا لا يدع مجالًا للشك.
لجأت الدول الاستبدادية عبر التاريخ إلى الجماعات شبه العسكرية للقيام بأعمالها القذرة، بهدف المحافظة على إمكانية الإنكار المقبول. حتى وإن كان ارتباط الجماعات بالدولة معلومًا واستفادة هذه الأخيرة منها جليًّا، كان يصعب إثبات ذلك أمام القضاء. والأمر سيان بالنسبة إلى النظام السوري، الذي بدا أنّه يقوم بتلزيم بعض أشنع أعمال العنف في خلال الصراع إلى مصادر خارجية.
بوسع لجنة العدالة الدولية والمحاسبة أن تكشف اليوم كيف قامت القيادات العليا في النظام السوري بتخطيط تحركات تلك الجماعات شبه العسكرية وتنظيمها وتحريضها ونشرها بهدف مساندة قمع الدولة للمعارضة. بين مجموعة الوثائق التي تحوزها اللجنة، المؤلفة من أكثر من مليون صفحة وضعتها مختلف كيانات الدولة السورية، نجد تلك التي تفصّل نمو المنظمات شبه العسكرية من جماعات موالية على مستوى صغير أو مستوى الأحياء إلى ميليشيا عالية التنظيم.
على الرغم من أنّ النظام السوري حرّك هيكلياته الأمنية الرسمية في الغالب لقمع المظاهرات المناهضة له، إلّا أنّه استنفر كذلك الجماعات الموالية له أو الجماعات شبه العسكرية واستعان بها. تُبيّن أدلة في حوزة لجنة العدالة الدولية والمحاسبة – وهي وثائق صادرة عن أفراد النظام السوري وموقعة ومختومة من قبلهم – كيف قامت قيادات النظام العليا باستنفار جملة واسعة من الموالين للأسد وتنسيقها والإشراف عليها، بما في ذلك أعضاء في حزب البعث، وقوات الدفاع في القرى، والجماعات القبلية، مع إعطاء بعضها صفة رسمية كلجان شعبية أصبحت فيما بعد قوات الدفاع الوطني.
تم استنفار الجماعات الموالية للنظام والاستعانة بها منذ أولى مراحل الصراع، التي شهدت انطلاق مظاهرات غير مسبوقة وظهور كتابات مناوئة للدولة ومناهضة للأسد في بعض المناطق السورية.
على أثر مظاهرات في حلب يوم 17 كانون الثاني/يناير 2011، عُمِّمت تعليمات عبر فروع أجهزة النظام الأمنية، وصولًا إلى المستويات الدنيا المتمثلة باللجان الأمنية المحلّية، باستعمال موارد حزب البعث وبنيته التحتية وغير ذلك، تحقيقًا لتلك الأهداف. أما في دير الزور، التي تبعد مسافة 400 كيلومتر عن حلب، فقد أبلغ رئيس الفرع 243 التابع للمخابرات العسكرية الأمر إلى مرؤوسيه عبر سلسلة القيادة، طالبًا من أقسام الفرع ومفارزه أخذ الحيطة والحذر، وزرع المخبرين، وتسيير الدوريات، ومنع خروج مزيد من المظاهرات، عبر "إجراء اللازم". انتهى التعميم بطلب التقيد التام بالتعليمات وشدد على عدم "التساهل" في تنفيذها.
بعد أسابيع قليلة، وبّخ رئيس المخابرات عينه الوحدات التابعة له بسبب فشلها في منع "الكتابات المسيئة" وأوعز إليها بقمعها من خلال تنظيم عمل القوى الأمنية والجماعات الموالية، بما فيها الجهاز الحزبي البعثي وأعضائه. لم تكن تلك التعليمات تعليمات منعزلة صادرة عن سلطات المنطقة أو سلطات محلّية.
تشير الوثائق إلى تعليمات أصدرها مكتب الأمن القومي، وهو جهاز أمن قديم العهد تابع للدولة ومسؤول عن تنسيق جميع الأجهزة الأمنية في الدولة السورية. حتى نهاية شهر آذار/مارس 2011، نقل مكتب الأمن القومي التعليمات إلى الجهات الأمنية لاتخاذ الإجراءات، ليقوم بعدئذ بتوزيع التعليمات والقرارات الصادرة بأمر من خلية إدارة الأزمات المركزية، والإشراف على تنفيذها. وبالتالي، يكون قرار الاستعانة بالجماعات الموالية للمساعدة على قمع المظاهرات قد أتى من أعلى مستويات هرم السلطة.
بحلول 2 آذار/مارس 2011، اتّسع نطاق الجماعات الموالية التي طُلِب منها التصدي للوضع، حيث أصدرت المخابرات العسكرية تعليمات أوعزت فيها "تحريك وتنشيط جميع العناصر الأمنية والمندوبين والمصادر والفرق الحزبية والتنظيمات الشعبية ومسؤولي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وجميع الأصدقاء" الذين كُلِّفوا برصد الكتابات أو المنشورات أو التجمعات ضمن نطاق عملهم والإعلام عنها فورًا. بعد ستة أيام، استلم الفرع عينه تعليمات أكثر صرامة تضمنت "تشديد المراقبة[…] وتكثيف عمل المصادر والمندوبين والجهاز الحزبي".
غير أنّ عملية القمع باءت بالفشل، مع انتشار المظاهرات والنشاط المعارض عبر البلاد، وتزايد عدد المتظاهرين مع مرور الأسابيع. في يوم 16 آذار/مارس 2011، خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع دمشق وحلب ودير الزور وحماة ودرعا. أطلق الشارع على ذلك اليوم تسمية يوم الغضب، وقد سجّل بداية الثورة ضد النظام على مستوى البلاد.
كان رد النظام في المقابل عنيفًا، مع تصعيد دور الموالين له الكثر. فلم يعودوا مجرد عيون النظام وآذانه، وإنما وُضعوا في حالة تأهب عالٍ ونُظِّم نشاطهم. وبما أنّ المظاهرات الكبرى كانت تحصل عادةً بعد صلاة الجمعة، قامت الأجهزة الأمنية المحلّية بالتبليغ عن الإجراءات التي تتخذها، بينها "استنفار كامل الجهاز الحزبي عاملين وأنصار" مع "حثّهم على التواجد في المساجد بأعداد كبيرة".
شكّل حزب البعث أسهل جهة وأكثرها فعالية للبحث عن الموالين، فكانت شبكة الحزب الموسّعة، من فروع وشعب وفرق، جاهزة للاستثمار في هذا البحث.
بين شهرَي آذار/مارس ونيسان/أبريل 2011، استغل النظام هذه الشبكة لإنشاء منظمات جديدة، تتمتع بمعرفة وشبكات محلّية لمواجهة المعارضة: ألا وهي اللجان الشعبية. تألفت عضوية اللجان الشعبية من موالين حزبيين بعثيين بالإضافة إلى أعضاء في النقابات، روّجوا رواية النظام بأنّ الرد على المظاهرات هو رد شعبي سوري عضوي، ولا ينبع من فئة علوية فحسب. تُظهِر وثائق في حوزة لجنة العدالة الدولية والمحاسبة أنّ هذه اللجان الشعبية أبعد ما يكون عن العفوية، بل إنّها منظمة تابعة للدولة تتلقى تعليماتها منها وتخضع لمراقبتها عن قرب، بتوجيه من اللجان والأجهزة الأمنية والشرطة المحلّية وتحت وصايتها. نشطت اللجان الأمنية في كلّ المحافظات، حيث قامت بتنسيق عمل الأجهزة الأمنية، وترأسها لغاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011 مسؤول حزب البعث في المحافظة المعنيّة.
تقدّم البلاغات من محافظة الرقة صورة موجزة عن آلية العمل تلك.
في 30 آذار/مارس 2011، صدرت تعليمات إلى كلّ الأقسام والمفارز، بما في ذلك إلى قائد مفرزة تل أبيض، طلب فيها رئيس فرع المخابرات العسكرية 243 في دير الزور (التي تبعد أكثر من 200 كيلومتر عن تل أبيض) من المفرزة "وضع خطة عمل" لمواجهة المعارضة مع التنسيق الكامل والفعال والإعلام الفوري، وتشكيل مجموعتَين من أعضاء حزبيين بعثيين: تُنشَر مجموعة منهما في المساجد وتكون الأخرى "قوة احتياط موجودة في المكاتب".
سارع قائد المفرزة إلى طلب توضيح للأمر، فتلقى تعليمات إضافية في اليوم نفسه:
في 7 نيسان/أبريل، عقدت اللجنة الأمنية في منطقة تل أبيض اجتماعًا وأصدرت، من جملة ما تناولته من شؤون، توجيهًا إلى "الرفاق البعثيين عاملين وأنصار لأداء فريضة الصلاة والمساجد في 8 نيسان 2011".
سرعان ما اكتسبت الاستعانة بالموالين البعثيين طابعًا رسميًّا أكثر، في إطار التدابير الأمنية العامة التي طبّقها النظام. في 11 نيسان/أبريل 2011، أرسل فرع المخابرات العسكرية 243 برقية إلى أقسامه ومفارزه تضمّنت التعليمات التالية:
تؤكد هذه الوثائق أنّ اللجان الشعبية دُمِجت في سلسلة قيادة حزب البعث وتبيّن أنّه سرعان ما ضُمَّت إلى جهود التنسيق الأمني العام التي اضطلع بها النظام.
بالفعل، تكشف وثائق في حوزة لجنة العدالة الدولية والمحاسبة أنّه، بينما كانت هذه الإجراءات تُطبَّق على مستوى كلّ محافظة، كانت تخضع لإشراف وتنسيق أعلى مستويات هرم السلطة في دمشق.
مع استمرار فقدان النظام لسيطرته على الوضع، تحوّلت المظاهرات إلى معارضة مسلّحة، واتخذت السلطات خطوات هدفت إلى تعزيز التحكّم بردّها الأمني ومركزية قراره، إذ بات النموذج القائم للتواصل وتبادل المعلومات والتنسيق بين الجهات العسكرية والسياسية والأمنية غير كافٍ. أنشئت خلية إدارة الأزمات المركزية – وهي لجنة مخصصة رفيعة المستوى – في شهر آذار/مارس 2011 لتنسيق رد النظام على الثورة. هيئة اتخاذ القرار الرفيعة هذه كانت تابعة بشكل مباشر للرئيس الأسد، وقد جمعت في كيان قيادي واحد بين كبار رؤساء أجهزة الأمن الوطني والمخابرات، ووزير الداخلية، ووزير الدفاع، وآخرين.
في إحدى أولى التعليمات التي أصدرتها خلية إدارة الأزمات المركزية في 18 نيسان/أبريل 2011، أعلنت "انتهاء مرحلة التسامح وتلبية المطالب" وأنّه يجب اعتماد "المواجهة المتعددة الجوانب للمتظاهرين والعابثين بالأمن والمخربين". أعطي الأمر بتدريب اللجان الشعبية وغيرها من الجماعات على استعمال الأسلحة وصدّ المظاهرات، وطُلب منها مواجهة متظاهري المعارضة، وكذلك توقيف الأشخاص الذين يُشتبَه بانتمائهم إلى المعارضة وتسليمهم إلى الأمن والجيش، ما سجّل تصعيدًا من دورها السابق المتمثل في حماية المباني، الذي تحوّل إلى استهداف المعارضين بشكل مباشر وبالقوة. وأيضًا، سعى النظام إلى الحفاظ على إشرافه وسيطرته على هذه الجماعات حرصًا على حسن تنظيم عملها.
يُظهِر مزيد من الوثائق كيف تم العمل بهذا الأمر. فقد تضمّن تقرير لخلية إدارة الأزمات المركزية، يعود إلى 11 أيار/مايو 2011، إبلاغًا بزيارة رفيعة المستوى إلى حمص، ما يدل على أنّ قيادة الخلية التقت مباشرة بجماعات موالية لتنفيذ الأمر ونشر أعضائها في أرجاء المدينة. تم توجيه القيادة البعثية في المحافظة على تقديم المساعدة في التعامل مع المعارضة، على أن تُقسَم المدينة إلى مناطق أو قطاعات (غالبًا ما يُشار إليها بأقسام)، يشرف على كلّ منها أحد قادة فرع الأمن فيها. بعد أيام معدودة، طلب حزب البعث في إدلب من رئيس الفرع 271 تدريب مئة ’مواطن‘ وحصل على الموافقة منه على ذلك، في حين تكشف وثائق عديدة بين الفرع 271 واللجنة الأمنية وفرع حزب البعث عن طلبات وموافقات تتعلق بتأمين بنادق روسية لتسليح مدنيين مذكورين بالاسم.
مع تصاعد حدة الصراع في ذلك الصيف، ازداد دمج اللجان الشعبية والجماعات الموالية للنظام الأخرى، والدور الذي أدته في قمع المعارضة، في إطار القوات العسكرية والأمنية. في 5 آب/أغسطس 2011، التأمت خلية إدارة الأزمات المركزية لبحث سوء التواصل بين أجهزة الأمن الرسمية ومختلف الجماعات الموالية، الذي أدى إلى "خسائر بشرية ومادية" وأتاح "للعصابات المسلّحة أن تزداد في غيّها بممارسة أعمال السلب والنهب والقتل وترويع المواطنين".
ناقشت خلية إدارة الأزمات المركزية كيفية تعزيز تزامن عمل الأجهزة الأمنية. وفي اليوم التالي، نقل مكتب الأمن القومي تعليمات خلية إدارة الأزمات المركزية إلى أمناء حزب البعث على مستوى المحافظات، أي رئيس اللجنة الأمنية في كلّ محافظة. فكُلّفوا بتنفيذ عمليات أمنية عسكرية مشتركة يوميًّا لتوقيف الأشخاص من فئات محددة، وإنشاء لجان تحقيق مشتركة للتحقيق مع الموقوفين. وطُلب منهم الاستعانة باللجان الشعبية للحفاظ على السيطرة على المناطق التي تم "تنظيفها" من المتظاهرين.
نُقِلت هذه التعليمات عبر سلسلة القيادة، من الأعلى إلى الأسفل، إلى أمناء فروع حزب البعث في محافظات حماة ودير الزور وريف دمشق وحمص وإدلب ودرعا، الذين أوعزوا بدورهم إلى الوحدات التابعة لهم بتنفيذ الأمر. وسرعان ما تبيّن الوثائق توجيه تعليمات من أجل "تدريب" هذه الجماعات "على استخدام الأسلحة ليتم استخدامها بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية".
يشكّل منح هذه الأدوار المحددة بوضوح للجماعات شبه العسكرية الموالية للنظام، في إطار السيطرة على الأراضي، نقطة أساسية في فهمنا لسبب ملاحظة تواجد هذه الجماعات في خلال العمليات التي نفّذتها قوى الأمن السورية أو بعدها.
في خلال العامَين 2011 و2012، أفاد الشهود والضحايا باستمرار عن تواجد ما أطلقوا عليه اسم "الشبيحة" في مجازر مختلفة في أرجاء البلاد.
ولا شك أنّ الجرائم التي اقترفتها القوات شبه العسكرية تم التبليغ عنها من مستويات سلسلة القيادة الدنيا إلى مستوياتها العليا. ولكنْ، بلا نتيجة تذكر.
تُظهر وثائق مبكرة لخلية إدارة الأزمات المركزية محاولات لإبطال اللجان الشعبية، ربما أتت نتيجة التبليغ المتزايد عن النهب والجرائم على يد عناصر اللجان. على سبيل المثال، في 20 نيسان/أبريل 2011، عُمِّمت خلاصات اجتماع خلية إدارة الأزمات المركزية عبر القيادة القطرية، بينها أمر نصّ على "إلغاء اللجان الشعبية". بعد أربعة أيام، أصدرت خلية إدارة الأزمات المركزية محضر اجتماعها المنعقد في 22 نيسان/أبريل 2011، أكّدت فيه "منع اللجان الشعبية من العمل" حيث أنّ مسؤولية "حفظ الأمن في المحافظات" تعود إلى حزب البعث واللجان الأمنية.
إلّا أنّ هذه الجهود لم تكن محاولات صادقة لكبح الاستعانة بالقوات غير النظامية والميليشيات، إذ طلبت وثائق صادرة عن خلية إدارة الأزمات المركزية في الأسبوع نفسه استخدام الجماعات الموالية، بالإضافة إلى تسليحها وتدريبها.
كانت درجة العنف والإجرام الذي انتهجته الميليشيا غير مستساغة بالنسبة لبعض ممثلي الجهاز الأمني والعسكري الرسمي حتى. فأدى ذلك أحيانًا إلى اشتباكات وتوقيفات طالت الموالين. ولا شك أنّ قيادات النظام العليا كانت تعلم أنّ هذه الجماعات ترتكب الأعمال الإجرامية.
مع ذلك، توضح بعض الوثائق في حوزة لجنة العدالة الدولية والمحاسبة أنّهم طلبوا من مرؤوسيهم عدم المساس بعناصر الميليشيات، بدل التحقيق معهم أو معاقبتهم، في إخلال واضح بمسؤوليتهم كرؤساء أو قادة.
على سبيل المثال، تُبيّن تعليمات الفرع 271 أنّ الفرع كان على اطلاع بأنّ التنظيمات الشعبية قد مارست الانتهاكات بحق السكان المدنيين، بما فيها التوقيف التعسفي، والخطف، وتسوية الحسابات الشخصية. اكتسبت إحدى الجماعات، التي عملت برعاية فرع المخابرات الجوية في إدلب وتم تسليحها بالبنادق والرشاشات، فضلًا عن القذائف الصاروخية الدفع (آر بي جي)، سمعة سيئة نتيجة اعتقالها غير المشروع للمواطنين وسوء معاملتها لهم.
غير أنّ تعليمات الفرع 271 إلى مرؤوسيه كانت واضحة، إذ جاء فيها: "إلا أنّ بعض الفروع الأمنية تقوم بتوقيف هؤلاء الرفاق. لذا يرجى تنبيه الحواجز الأمنية والعسكرية بعدم التعرض لهم".
نبع تساهل النظام المتزايد مع القوات شبه العسكرية واعتماده المتنامي عليها من سياق الصراع في ذلك الوقت، حيث تمكّنت الفصائل المسلحة في المعارضة – التي انضوت تحت راية الجيش الحر – من السيطرة على رقعة واسعة من الأرض، في حين انشقت أعداد هائلة من الجنود والقادة السوريين وانضمت إلى المعارضة.
تمثّل أحد ردود النظام باستيعاب اللجان الشعبية ودمجها في قوة شبه عسكرية حكومية رسمية أطلِقت عليها تسمية قوات الدفاع الوطني. كشف قائد في الجيش السوري أنّ قوات الدفاع الوطني أنشئت لأنّ القيادة كانت قد بدأت تفقد الثقة في الجيش وفعاليته، فيما عمد الكثير من الجنود إلى الفرار أو الالتحاق بالمعارضة. بحلول العام 2013، أصبحت هذه التشكيلات الجديدة تُرسَل إلى جبهات القتال، ما أعطى الميليشيا الموالية دورًا إضافيًّا آخر في الصراع.
نبع تساهل النظام المتزايد مع القوات شبه العسكرية واعتماده المتنامي عليها من سياق الصراع في ذلك الوقت، حيث تمكّنت الفصائل المسلحة في المعارضة – التي انضوت تحت راية الجيش الحر – من السيطرة على رقعة واسعة من الأرض، في حين انشقت أعداد هائلة من الجنود والقادة السوريين وانضمت إلى المعارضة.
تمثّل أحد ردود النظام باستيعاب اللجان الشعبية ودمجها في قوة شبه عسكرية حكومية رسمية أطلِقت عليها تسمية قوات الدفاع الوطني. كشف قائد في الجيش السوري أنّ قوات الدفاع الوطني أنشئت لأنّ القيادة كانت قد بدأت تفقد الثقة في الجيش وفعاليته، فيما عمد الكثير من الجنود إلى الفرار أو الالتحاق بالمعارضة. بحلول العام 2013، أصبحت هذه التشكيلات الجديدة تُرسَل إلى جبهات القتال، ما أعطى الميليشيا الموالية دورًا إضافيًّا آخر في الصراع.
أفاد أحد قادة قوات الدفاع الوطني آنذاك للإعلام أنّ قواته ضَمّت الميليشيات المدنية في هيكلية عسكرية رسمية تتمتع بانضباط عسكري وتؤمّن التدريب والأسلحة.
تكشف مجموعة وثائق في حوزة لجنة العدالة الدولية والمحاسبة من إدلب أنّه، منذ العام 2014 وما بعده، عملت قوات الدفاع الوطني تحت قيادة اللجنة الأمنية والعسكرية المحلّية. تبيّن الوثائق درجة السيطرة والإشراف التي مارسها رئيس اللجنة الذي أصدر التعليمات إلى القوات التابعة له بانتظام، بينها قوات الدفاع الوطني.
بوسعنا أيضًا أن نستنتج مستوى القيادة والسيطرة من قيام قائد قوات الدفاع الوطني بطلب موافقة رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في إدلب على أبسط المهام، على غرار الطلب من القوى الأمنية والعسكرية الأخرى البحث عن بندقية آلية مفقودة. وأخيرًا، تُظهر وثائق أنّ اللجنة الأمنية والعسكرية في إدلب استلمت كذلك تقارير رسمية من المخابرات العامة عن حالات اقترف فيها مقاتلو قوات الدفاع الوطني جرائم مزعومة، ما يدل على أنّ الأجهزة الأمنية كان لها دور تأديبي في السيطرة على وحدات قوات الدفاع الوطني.
تمثّل قوات الدفاع الوطني ذروة احتضان النظام للجماعات الموالية، وتحوِّلها إلى كيان متشابك جوهريًّا بالهيكليات الرسمية. فمن عيون النظام وآذانه في المراحل المبكرة إلى رفاق سلاح للقوى العسكرية والأمنية السورية، كبرت الجماعات الموالية حجمًا وأهميةً منذ اندلاع الحرب. في حين حاول النظام في بادئ الأمر أن ينكر هذا الارتباط علنًا، غير أنّ الوثائق التي جمعها محققو لجنة العدالة الدولية والمحاسبة تكشف بما لا يدع مجالًا للشك الارتباط بين النظام والجماعات شبه العسكرية المتحدرة من صفوف حزب البعث.